بسم الله الرحمن الرحيم
مقال نقدي
"عفوا بني قومي"
شاعر مبدع, عاش حاضره, وخلّد ماضيه واستشرف المستقبل بقصائده وقوافيه..
عهدنا سباقاً وعرفناه بشعره الصادق وكلماته التي تلامس شغاف القلوب المملوءة ألماً وحزناً لتخرج لنا أبياتا علها تداوي أمة مثخنة بالجراح ...
شاعرنا عبد الرحمن العشماوي قرأنا له كثيراً وسمعنا له اتضح في شعره تفتح ذهنه وقوة ملكته البلاغية ..
سخر قلمه للدفاع عن حياض الإسلام وجعل من شعره إعلاما عن صرخات الثكلى وآهات الأيتام . فما تكاد تسمع صرخة مسلم في أقاصي المعمورة إلا وشاعرنا لباها ببيت أو أبيات يمليها عليه قلبه ووجدانه ..
شاعر امتلك موهبة فعرف كيف يستثمرها ويوظفها فيما يعود على أمته بالنفع والنصر , فهو الذي خرج بالشعر الإسلامي من دهاليز الظلام إلى فجر النور , تفرد في مشاعره وأحاسيسه فنأى بنفسه عن أن يكتب بكفه أو يقلي بلسانه مايزيد جرح أمته الغائر أو حتى يخدر بدنها المتهالك .
ومما أعجبني في قصائده التي تسطر بمداد من ذهب قصيدته (عفواً بني قومي ) وقد قالها حينما قيل له : لماذا لانسمع منك إلا شعر الجراح والآلام والأحزان ألا يمكن أن نسمع قصيدة رقيقة تصف فيها وجه ليلى وشعرها!!
فقال :
قالوا أرح عينيك من طول السهر وأرح فؤادك من أنينك والضجر
بدأ الشاعر بالمقولة التي قيلت له وعرض فيها رجاء هؤلاء بأن تنام عينه ويستريح فؤاده من هذه الأنات والزفرات ويتجه إلى أمر آخر وأجمل بالنسبة لهم.
واستمر الشاعر في قصيدته بعرض أقوالهم :
قالوا أقم للشـــــــــــــــعر مملــــــكة بــــهـــــا من كل غالية منعمة اثـــــــر
وارسم لنا من جسم ليلى لوحة تتنافس الألوان فيها والصور
والشاعر هاهنا يرمي إلى مافعله غيره من شعراء هذا الزمان من تسخير الموهبة الشعرية في إجلال الهوى والإفراط فيه فصارت أغراض الشعر عندهم مع الأسف لاتتعدى غزلاً ووصفاُ لهجران المحبوب .
وقد أجاد الشاعر في اختيار بعض الكلمات ومنها لفظة (ازرع) في هذا البيت:
وازرع لنا في كل حرف واحة فيها الندى يهمي فينتعش الشجر
ووجه إجادته في هذه اللفظة أن الزرع ينمو في التربة وما يلبث أن يثمر والكلمات أيضا كذلك فهي تنمو في القلوب وتثمر بالأعمال...
ومازال شاعرنا يصور الهوى بقوله :
علق لنا فيها قناديل الهــــوى وانثر على الجنبات أطــــــــــواف الزهــــــــر
لقن نجوم الليل أغنية الـهــوى واسكب رحيق العشق في أذن السحر
ففي وصفه له بأنه كقناديل معلقة و ورود منتشرة ومتفتحة في الحياة وهذا محال بالطبع فالحياة
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقدار والأكدار
والآن أفصح عن مايراد :
أثــــخـنـت شعرك بالجراح كأنما تسعى إلى تغيير ماصنع القد
هــــذا هو الأقصى ملأت قلوبنا حزناً عليه ولم يزل قيد النظر
هذه ربى لبنان أمحل روضها فهل استعاد الشعر منها ما اندثر
هــــذا الخليج مضــــرج بدمــــائـــه أترى القصائد سوف تجبر ما انكسر
أتريد أن تحيي رفات إبــائنا بالشعر أو ترقى إليك بما انحـــدر
فهؤلاء القوم لايريدون شعرا ملطخا بالدماء ومثخنا بالجراح من خلال تصويره مآسي الأقصى ولبنان والعراق.
وحين استفهم الشاعر فهو يعبر عن حالة الكثير ويضرب على وتر حساس فالتساؤل الذي ملأ الأذهان وحيرها هل استعاد الشعر ما اندثر ؟ أو أن القصائد تجبر ما انكسر؟ ونقول بأسلوب أعم هل الحديث يفيد ؟؟ أقول وبملء فيّ (نعم ) ولو لم يكن كذلك فلماذا يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم (اهجهم وروح القدس معك) فيما معنى الحديث.
ويعود الرجاء مرة أخرى :
خدر مشاعرنا بأنغام الهوى فلقد تعودت النفوس على الخدر
وهذا ما يريدون وما يفعل الكثير من الشعراء أما شاعرنا فلم يحقق لهم ما أرادوا حتى وُصِم كثير من الشعراء بالإرهابيين إن هم تفاعلوا مع الدماء والجراح و أي قلب لا يتفاعل إلا إن كان مخدرا أو ميتاَ...
وهنا يأتي رد الشاعر باعتذاره عن ماطلبوه وبتوضيح منهجه :
عــــفـــواً بني قومي فلست بشاعر يملي على الكلمات أمزجة البشر
هذه جراحكم التي أصلى بها اشدوا بها شدواَ يخالطه الكــــــــــــــدر
سأظل اعزفها على وتـــــر الأسى حتى أرى في الأفق تلويح الظفر
من أين تبتسم القصائد في فمي والحزن يملؤها بأصناف العــــــــبر ؟؟
وهذا الاستفهام حريّ أن يوقف عنده فقد تساءل أنى لحزين أن يبتسم !! وهذا معنى صحيح ويطابق الواقع لكن هناك مقولة جميلة وتبعث على التفاؤل:"إن أجمل ابتسامة هي تلك التي تشق طريقها وسط الدموع ".
فتعذر عليّ الجمع بينهما ولكن لعل الشاعر يقصد أحزانا ومصائب جماعية تحل بالأمة وليست مصاباً فردي..
وبعد أن اعتذر الشاعر لهم أتى بالرد عليهم فقال:
أنا لست زمارا إذا نادى الهوى لبى وان نادى منادي الحق فر
أنا لا أريد لأمتي في دربـــــها إلا سموا عن مهازل من كفـــــــــــــــــــــر
أنا لا أريد لأمتي إلا مدى رحبا وبعدا عن مضاجعة الحفـــــــــــــــــــــ ــــر
أنا أيها الأحباب قــــلـــبٌ نــــــــابض أنا لست تمثالاً ولا قلبي حـــجـــــــــــــــــر
ومع رد شاعرنا عليهم تزداد منهجيته وضوحاً ونزداد إعجابا ونقف إجلالا لقلمه وشعره وشاعريته وأنا لم اختر هذه الأبيات لنقدها على حد سواء بل لأنها وضحت وبينت منهج شاعرنا ورؤيته للحياة من حوله ومن ثم ترجمتها إلى شعر يُقرأ ويبقى ...
وختاماً أنا لست كفء لنقد الشاعر عبد الرحمن العشماوي ولكن حسبي أنني أعجبت بمنهج و طريقة و أردت تبيينها ...
14/3/ 1428هـ