(( مقال نقدي ))
الحطيئة يروي قصة كريم
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف بها ساكن رمل
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة
يرى البؤس فيها من شراسته نعمى
وأفرد في شعب عجوزاً إزاءها
ثلاثة أشباح تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتدوا خبز ملة
ولا عرفوا للبد مذ خلقوا طعما
رأى شبحاً وسط الظلام فراعه
فلما رأى ضيفاً تشمر واهتما
فقال : هيا رباه ضيف ولا قرى
بحقك لا تحرمه تالليلة اللحما
فقال ابنه لما رآه بحيرة
أيا أبت اذبحني وسير له طعما
ولا تعتذر بالعدم عل الذي ترى
يظن لنل مالاً فيوسعنا ذماً
التعريف بالشاعر :
هو أبو مليكه جرول بن أوس بن مالك العبسي ، ولقبه الحطيئة وعناه القصر الذميم ، كان دعياً في نسبه حتى لقد تخلى عن نسبه مراراً ، وكان سفيهاً حاقداً على المجتمع ، حتى لقد هجا نفسه وأمه وأباه وزوجته وأكثر من هجا سيد من سادات تميم اسمه الزبرقان فشكاه إلى عمر رضي الله عنه فسجنه مدة ، غير أن الحطيئة نظم قصيدة مؤثرة استعطف بها عمر على أولاده فأطلق سراحه ونهاه عن هجاء الناس .
مناسبة النص :
من المعروف أن الحطيئة كان متكسباً بشعره محترفاً للتكسب وهو هنا يروي قصة كرم مثالي ربما يكون الشاعر نفسه هو الضيف فيها وربما كانت خيالية نسجها من قريحته لكي يرسم للناس مثلاً أعلى في الكرم ليحذوا حذوه .
معاني الكلمات :
طاوي ثلاث : جائع ثلاث ليال
عاصب البطن : عصب على بطنه حزاماً من الجوع
مرمل : شديد الفقر
رسماً : أثر للعمران
أخي جفوة : ذي خشونة
الشراسة : سوء الخلق
البهم : صغار الغنم
ثلاثة أشباح : أولاده
خبز الملة : قرص يخبز في الرماد الحار
راعه : أخافه
تشمر : استعد
القرى : طعام الضيف
طعم : طعام
العدم : الفقر
الشرح :
هذا النص عبارة عن قصة شعرية تخيلها الحطيئة ليصور معاني الكرم ويبعث دوافعه في النفوس من البيت الأول إلى الرابع ويصف حياة الرجل الكريم وعائلته في الصحراء الموحشة وحالة الفقر والبؤس التي يعيشونها ..
يقول الحطيئة عن ذلك الأعرابي أنه رجل خشن العيش لم يذق الطعام منذ ثلاث ليال ، يعيش فقيراً في صحراء لا أثر للعمران فيها ، وهو لخشونته يستوحش من معاشرة الناس ويرى عيش الحرمان في الصحراء نعمة جليلة ..
وقد أسكن في شعب منعزل مع زوجته وحولها أولاده الثلاثة كأنهم صغار الغنم فحم حفاة عراة لا يعرفون الخبز ولا ذاقوا طعم البر ، وفي ليلة مظلمة رأى شبحاً مقبلاً فخاف أول الأمر ولكنه حين عرفه ضيفاً بدأ يستعد وناجى ربه قائلاً : يا رباه هذا ضيف ليس عندنا قرى له فأدعوك بعظمتك ألا تحرمه هذه الليلة من اللحم وهنا أقبل ولده فقال له : يا أبت اذبحني قرى للضيف ولا تعتذر بالفقر فربما ظن ضيفنا أننا ذو مال فنشر ذمنا في الناس .
التعليق على النص :
الأسلوب قصصي رائع مشوق وتشتمل القصيدة على العناصر الفنية الجيدة وهي المقدمة التي حددت المكان وصورت الشخصيات والعرض المنطقي المتسلسل ..
ألفاظ القصيدة في غاية الجزالة والروعة والموسيقى العذبة ..
الصور الخيالية رائعة ومؤثرة فالشاعر يصور عاطفته بريشة فنان ..
يظهر في القصيدة أثر التنقيح والروية ويظهر ذلك في الطريقة الرائعة التي ينتقي بها الشاعر ألفاظه ويرتب بها معانيه ..
الظاهر أن الحطيئة قال هذه الأبيات في الجاهلية لأننا لا نكاد نلمح فيها أثر لمصطلحات الإسلام وألفاظه .
الصور البلاغية :
في البيت الأول كناية : طاوي الجوع ، عاصب البطن .. كناية عن شدة الجوع .
في البيت الثاني سجع : الأنس ، البؤس .
في البيت الثالث تشبيه : سبه الشاعر أبناء الأعرابي بالبهم وهم صغار الغنم وهم حفاة عراة لا يعرفون الخبز .
في البيت الرابع جناس : حفاة ، عراة .