المقال النقدي
هذه القصيدة التي لم يبدأها المتنبي بغزل كعادته في ترسمه خطا من سبقه من الشعراء، بل بدأها بما اشتهر به من حكمة رائعة، مسدداً سِهَام فكره إلى صنوف الناس، فعلى أقدارهم تأتي أعمالهم.
جعل المتنبي هنا المطلع مؤكداً المعنى بهذا الأسلوب القصري الرائع، وهذه الأبيات مليئة بفن المتنبي من مقابلة رائعة قوت المعنى كما في:
( وتعظم في عين الصغير.. وتصغر في عين العظيم..)
( الأبطال كلمى مهزومون.. وأنت ثابت مبتسم..)
( ....... والنصر غائب.. والنصر قادم..)
وقد اشتهر بذلك في جُلِّ روائعه:
فصــبحهــم وبــسطـــهم حــرير ومسـاهــم وبــسـطــهــم تـــراب
* * *
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثى وبياض الصبح يغري بي
وكذلك عُرف بالتشخيص الذي يُنطق فيبث الحياة فيما لا حياة فيه فيكون من وراء ذلك الروعة:-
هل الحدث الحمراء تعرف لونها...؟
وحتى كأن السيف للرمح شاتم..
وأخيراً فإن المبالغة لمن سمات فن المتنبي، بل لعله يتميز بها تميزاً واضحاً:-
وذلك ما لا تدعيه الضراغم.
هل تعلم الحدث الحمراء أي الساقيين سقاها: الغمائم أم الجماجم؟
كأنهم سروا بجياد ما لهن قوائم.
أما التصوير فالمتنبي يصل فيه بعبقريته إلى قمته: فها هو يشبه المنايا بالموج في كثرته وعنف حركته واضطرابه في أثناء المعركة، ويشبه تشتيت شمل الأعداء فوق جبل الأحيدب هزجاً بالنصر بدراهم نثرت فوق عروس تعبيراً عن الفرح والاستهانة.
وأخيراً فأن لجمال التقسيم نصيباً في هذا البيت الذي يتحدث عن الضرب الذي أتى الهامات ثم صار إلى اللبات، وهو مايدل على قوة اقتداره على الوصول إلى القمة في التعبير، والقصيدة صورت المعركة تصويراً رائعاً وتتضح فيها خصائص أسلوب المتنبي وضوحاً كاملاً.